
(خُطَّةُ النَّجاةِ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ وعذَابِهِ، والتَّأَهُّبُ لِمَوْتٍ سَعيدٍ)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وَبَعْدُ:
فَإِنَّ الموتَ هو الحَدَثُ الأكبرُ في حياة الإنسان مُذْ نُفِخَتْ فيه الروح، وهو بمعناه الحقيقي انتهاء للفصل الأول من حياة الإنسان، وهو الأقصر في فصوله الثلاثة، وهو إعلان عن انطلاق فصل جديد طويل، ممتد ليوم الدين، وهو برزخ وتمهيد وإعلان نتيجةٍ مَبْدَئِيَّةٍ لِمَا سيكون عليه الفصل الثالث والأخير من حياة هذا المخلوق العجيب، وهو الحياة الآخِرَةُ الباقيةُ السَّرْمَدِيَّةُ؛ حياة الخُلودِ بلا موت، فالقبر منزل الآخرة الأول؛ فمن جاز امتحانه، ونجا من فتنته وعذابه؛ فقد سَعِدَ سعادة لا شقاوة بعدها أبدًا، ومَنْ لم يُوَفَّقْ للنجاة منهما؛ فقد شَقِيَ شقاوة لا سعادة بعدها أبدًا؛ لذلك وجب إعداد خطة مُحْكَمَةٍ، لا تخيب -كَما هُوَ الحالُ عند كُلِّ أَمْرٍ ذِي بالٍ أو خَطَرٍ- للنجاة من فتنته وعذابه، أعني للظفر بالموت السعيد، والنجاة من شِقْوَةِ الأبد، وهذه الخطة مكونةٌ من ثلاث مراحل:
*المرحلة الأولى: تحديد أسباب الوقوع في فتنة القبر وعذابه، وهي تكاد تكون محصورةً في ثلاثة أمور:
الأول: التقصير في حقوق الله تعالى كترك الصلاة أو بعضها، أو النوم عنها وأدائها بعد انتهاء وقتها؛ وعدم إخراج الزكاة، أو إنقاصها؛ وإفطار رمضان، أو أيام منه، وعدم الحج مع المقدرة، والتقصير في فرائض الإسلام المكتوبات...
الثاني: الوقوع في كبائر الذنوب التي نَصَّ عليها العلماء: الباطنة: كالرياء، والعُجْبِ، والحَسَد، والشَّكّ في الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وَدِينِ الإسلام. والظاهرة: كالقتل، والزنا، وأكل الربا؛ يُراجَعُ لاستقصائها كتاب: الكبائر للذهبي، والزواجر للهيتمي...
الثالث: بعض الذنوب التي جاءت بها الأخبار الصحيحة: كعدمِ التَّنَزُّهِ مِنَ البول، وعدم الاسْتِتَارِ منه، والصلاةِ بغيرِ طَهورٍ، والتَّبَرُّجِ والدَّياثَةِ.
وكلِّ ما يتعلَّقُ بحقوقِ العِبَادِ مِنْ: دمائهم: بالقتل أو الضرب والجرح... وأموالهم: بغصبها، أو أخذها بغير وجه حق: كغش، أو خديعة، أو غُلول، أو أَخْذِ شَيْءٍ من المال العامِّ، أو أَخْذِ حق الغير برشوة، أو خداع أو كذبٍ أو تَحَبُّرٍ واسْتِقْواءٍ، وكلِّ ظُلْمٍ وبَغْيٍ وعُدْوانٍ ... وأعراضهِمْ: مِنْ غِيبَةٍ ونميمةٍ، وقَذْفٍ، وسخرية وازْدِرَاءٍ، والتدخُّلِ فيما لا يَعْنِي من أمورهم، أو فضحِهِمْ وكَشْفِ أستارهم؛ وقطيعةِ أرحامهم...
*المرحلة الثانية: تحديد أسباب النجاة من فتنة القبر وعذابه، وتكاد تكون محصورةً في سبعة أمور:
الأول: أضداد ما ذُكِرَ من أسباب الوقوع في فتنة القبر وعذابه.
الثاني: القيام بالأعمال التي أخبرت النصوص أنها منجية من فتنة القبر وعذابه، وأهمها:
الشهادة في سبيل الله تعالى، وملازمة ثغور الرباط والموت فيها، والمداومة على قراءة سورة تَبَارَكَ (المُلْك)، والموت يوم الجُمُعَة أو ليلته، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء؛ وتوابع ذلك من: صدق الولاء لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولأولياء الله تعالى الصادقين. والبراء الكامل من أعداء الله عز وجل.
الثالث: أداء الفرائض على وجهها الأكمل، وملازمة بيوت الله تعالى، ثم الإكثار من النوافل: الصلاة؛ بحال الخشوع وحضور القلب؛ وخاصة قيام الليل والضحى، وتلاوة القرآن؛ بحال التدبر والخشوع، وذكر الله تعالى بالقلب واللسان والأركان؛ بحال الإنابة والتعظيم، والإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بحال الحُبِّ والتوقير، والصيام؛ خاصة الأيام الطويلة الحارة، والصدقة؛ خاصة صدقة السِّرِّ على المُتَعَفِّفِينَ، وتَوقِيفِ الصدقات الجارية، التي يجري أجرها بعد الموت، والإكثار من مُطْلَقِ أعمال البِرِّ الزاكية، التي يحبها الله تبارك وتعالى...
الرابع: الأعمال التي فيها توسعة على المسلمين من: تفريج كرباتهم، والتيسير على مُعسِرِهم، والعفو عن زلاتهم وأخطائهم، وقضاء حوائجهم، وتأمين خائفهم، وستر عوراتهم، وإصلاح ذات بينهم.
الخامس: إسرار خبيئةٍ بينك وبين الله تعالى؛ تُخَبِّئها عند ربك تبارك وتعالى، وتحتسبها لِحُفْرَتِكَ.
السادس: التوبة النصوح بشروطها من ذنوبك: صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، قديمها وحديثها، المتعلقة بحقوق الخالق تبارك وتعالى، والمتعلقة بحقوق الخَلْقِ؛ بالتحلُّلِ من حقوقهم؛ وكثرة الاستغفار، والدعاء والاستغاثة والرجاء أن ينجيك الله تعالى من عذاب القبر وفتنته؛ والاستعاذة الدائمة منهما.
السابع: وقَبْلَ كلِّ ما سبق وبعدَهُ: إخلاصُ الدِّين لله تعالى، والافتقارُ له، والبكاءُ في الخَلَواتِ بين يديه، والرَّضا واليقينُ باللهِ تعالى ربًّا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً، وبالإسلامِ دينًا؛ وَحُسْنُ الظّنّ بالله تعالى أَنْ يَقِيَكَ فتنةَ القبرِ وعذابِهِ؛ بعدَ حُسْنِ العَمَلِ.
*المرحلة الثالثة: وتكاد تكون محصورةً في أمرين؛
الأول: العملِ الحَثِيثِ الدَّؤُوبِ على اجتنابِ جميعِ أسبابِ الوقوعِ في عذابِ القبرِ وفتنتِهِ، خاصةً الكبائر وحقوق العِبَاد.
الثاني: العملِ الحَثِيثِ الدَّؤُوبِ على القيامِ بما يُمْكِنُ ويَتَيَسَّرُ مِنْ أعمال البِرِّ؛ خاصة المُفْضِيَة إلى تفريج كُرُباتِ العِبَاد وقضاء حوائجهم...
وإيَّاكَ أَنْ تستكثِرَ ما ذُكِرَ؛ فإنّ مصيرًا أوَّلُهُ القَبْرُ، وآخِرُهُ الجَنَّةُ أَوِ النَّارُ؛ جَدِيرٌ أَنْ يُعْتَنَى به، وَوَاللهِ لَوْ بُذِلَ فيه أَنْفَسُ الأوقات، وأَشْرَفُ الأموال لَهُوَ قليلٌ في مقابل النجاة والفوز بسعادة الأبد...
ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تستعظِمَ ما ذُكِرَ؛ فَلَقَدْ أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه: "لَوْ أَنَّ عَبْدًا خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ، إِلَى أَنْ يَمُوتَ هَرَمًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، لَحَقَّرَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَوَدَّ أَنَّهُ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا كَيْمَا يَزْدَادَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ" (مسند أحمد، صحيح)؛ أَيْ: لاحْتَقَرَ عَمَلَهُ، واستقلَّه؛ في مقابل ما يَجِدُ مِنْ كرامة الله تعالى له.
وهذا هو العاقل الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ طلِمَا بَعْدَ المَوْتِ" (حَسَّنَهُ التّرمِذِيُّ والبَغَوِيّ).
وَلَهُ تَنَبَّهَ الحَسَنُ - رضي الله تعالى عنه- لَمَّا شَهِدَ مَوْتَ أَحَدِ إخوانِهِ، وعادَ لأهلِهِ؛ فَقَالُوا: الطَّعَامَ؛ يَرْحَمْكَ اللهُ؛ فقال: دُونَكُمُ الطعامَ؛ فَوَاللهِ لَقَدْ شَهِدْتُ مَصْرَعًا لا أَزَالُ أَعْمَلُ لَهُ.
فَيَا عِبَادَ اللهِ تَنَبَّهُوا؛ فَمَا أَعْجَلَ المَوْتَ، وما أَسْرَعَ خَطْفَتَهُ؛ فَتَيَقَّظُوا، وَخُذُوا جُنَّتَكُمْ، وَاسْتَعِدُّوا ... !!!
إرسال تعليق