
📖🕯 أَنْوَاعُ الافْتِقَارِ 🕯📖
مِمَّا هو مُقَرَّرٌ معلوم عند فقهاء أعمال القلوب؛ أن أعمال القلوب أعظم من أعمال الجوارح، وأنها موضع نظر الرب عز وجلَّ، وأن عليها المُعَوَّل في رِفعة درجات العبد، وقُرْبه من ربه عز وجل، وبحسبها يتفاوت الناس في الرُّتَب والمنازل في الجنة، وإن من المُقَرَّرِ كذلك أن عبودية الافتقار إلى الله تعالى من أجَلِّ أعمال القلوب، فهي لُبُّ العبودية، التي متى فُقِدت؛ فسدت العبودية؛ وهي روحها، التي متى خرجت؛ بَقِيَت الأعمال ميتة، لا خير فيها ولا حياة. ألا وإن افتقار العباد إلى الله تعالى نوعان:
* الأول: افتقار قَهْرٍ واضطرار.
* والثاني: افتقار عبودية واختيار.
* أما الأول: فهو ناتج عن حاجةٍ قَهَرَتِ العبدَ، وألجأته إلى إظهار افتقاره إلى الله تعالى، كمرض، أو خوف، أو حُزْن وهَمٍّ وغَمٍّ، أو ابتلاء، أو نُشُوز زوجة، أو عقوق أولاد، أو غَلَبَة دَيْن، أو قهر رجال وتسلط قَوِيٍّ، أو حاجَةٍ إلى نَفَقَةٍ من مالٍ، ... وأشباهِ ذلك؛ فينتج عن ذلك افتقارٌ قهري اضطراري في نفس العبد وجوارحه، لا يستطيع دفعه، ومَسْكنة واستكانة لنفسه؛ ما دام ابتلاؤه ومقتضى افتقاره موجودًا
* وأما الثاني: فهو ناتج عن جملة معارف: كمعرفة الله تعالى بالمنة والإحسان والعظمة، ومعرفة النفس بالفقر والعيب والحاجة؛ فينتج عن جُمْلَةِ هذه المعارف افتقارٌ ذاتِيٌّ اختيارِيٌّ إلى المَنَّان المحسن العظيم سبحانه وتعالى، وحاجة دائمة إليه، ومَسْكنة واستكانة ملازمة لنفسه وقلبه أبدًا.
* وأما الافتقار الأول: فمبناه على عبودية الدُّعاء والرجاء برفع مُقْتَضَى الافتقار، وهو افتقارُ عموم الأبرار الصالحين.
* وأما الافتقار الثاني: فمبناه على عبودية التَّنَفُّلِ بعد تمام الفرائض مما يحبه الله تعالى في الليل والنهار، من: كَثْرَةِ الركوع والسجود والتودد والمناجاة والذِّكْر والثناء والتعظيم، والدعاء المقرون بالرجاء أن يُلزِم الله تعالى قلبَه دوام الافتقار، وأن يفيض عليه من إحسانه ما يملأ قلبه ونفسه من إخلاص الدين له، وتعظيمه، وخشيته، ورجائه، ومحبته، والخشوع له، ورفع الوحشة بينه وبينه، وأن يستعمل جوارحه في طاعته، ومجانبة معاصيه ... وهذا هو افتقار الصَّفْوةِ من المُقَرَّبين والصِّدِّيقين.
* وأما الافتقار الأول: فهو مؤقت، مقرون بوجود سببه من عوارِض الشِّدَّة والبلاء، فإذا زال عارض الشِّدَّة والبلاء؛ تَرَّحل عنه الافتقار سريعًا، وعاد إلى حاله قبل نزول البلاء.
* وأما الافتقار الثاني: فهو مُلازِم للقلب، ساكِنٌ فيه، مُسْتَوْطِنٌ لا يتحوَّل، مُتزايِدٌ أبدًا؛ فهو مَبْنِيٌ على المعرفة، والمعرفةُ متزايدةٌ أبدًا مع كل لَمْحَةِ بَصَر، وخَطْرَةِ فِكْرٍ في الآفاق، وفي الأنفس، وفي أسماء الله تعالى وصفاته، وفي أفعاله في الخلق والخليقة، وفي أوليائه وأعدائه، وفي أيام الأولين والآخرين، ومع كل جولة تَدَبُّر لآية أو حديث أو عِبْرةٍ ...، فكلما ازدادت معرفته بالله تعالى؛ ازداد افتقاره، وهكذا حتى يلقى الله تعالى.
وهذا الافتقار الثاني أنفع الاثنين، وفي كُلٍ خير.
وأكثر الخلق افتقارُهم من النوع الأول: افتقارُ قَهْرٍ واضطرار.
وللافتقار الأول تأثير كبير في الافتقار الثاني؛ فقد يَحدُث أن يُفْتَح للعبد المُفتَقِر افتقارًا قهريًّا اضطراريًا نافذةٌ إلى معرفة الله تعالى، وتبقى هذه المعرفة مفتوحةً بعد انتهاء مُقْتضَى الافتقار من الشدة والبلاء؛ فيدوم افتقاره، ويزداد كلما اتسعت تلك النافذة وازدادت معارفه، وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ولمَّا كان الافتقار روح العبودية ولُبُّها، وهي أحسن أحوال العبد، وأوثق صِلَاتِه بربه تبارك وتعالى؛ اقتضت حكمته وقَدَرُهُ سبحانه أن ينتهيَ حال الإنسان في آخر عمره إلى الضعف والمرض؛ فيُفضي به هذا إلى الافتقار والالتجاء إلى الله تعالى؛ فيموت على هذه الحال، ويلقاه على أحسن الأحوال، والناس من ذلك يَضِجُّون، والله تعالى يرفُق بهم ويلطُف، ويكرمهم ويسوق لهم المنح في صور المحن، والهدايا في صور البلايا، ويأتيهم بالخيرات من حيث مظنة الشدة والابتلاء، وهم لا يشعرون.
فاللهمَّ بمنك وجودك وكرمك؛ لا تَحْرِمْنَا دوامَ معرفتك، ودوامَ الافتقار إليك.
إرسال تعليق